مع بدء توجّه سكان نيويورك إلى أعمالهم، كان 19 إرهابيًا موجودين على متن رحلات جوية انطلقت من مطارات في بوسطن وواشنطن ونيويورك. كان بحوزة هؤلاء، سكاكين كان يُسمح بها آنذاك في الطائرات شرط ألا يتجاوز طول نصلها عشرة سنتيمترات.
عند الثامنة إلا دقيقة صباحًا، غادرت رحلة تابعة للخطوط الجوية الأمريكية حملت رقم 11 مطار لوجن في بوسطن، متجهة إلى لوس أنجلوس وعلى متنها 92 شخصًا، خمسة منهم من الخاطفين بمن فيهم محمّد عطا الذي قاد الهجمات.
بعد 16 دقيقة، غادرت رحلة تابعة للخطوط الجوية المتحدة تحمل رقم 175 المطار ذاته، متجهة بدورها إلى لوس أنجليس وعلى متنها ستون راكبًا وطاقم الطائرة وخمسة خاطفين.
في الوقت ذاته تقريبصا، وفي الرحلة 11، طعن أحد الخاطفين راكبًا كان أول ضحية لاعتداءات 11 سبتمبر. واستولى الإرهابيون على الطائرة ووجهوها نحو نيويورك.
بعد بضع دقائق، أقلعت طائرة تابعة للخطوط الجوية الأمريكية تحمل رقم 77 من مطار واشنطن دالاس خارج العاصمة، متجهة إلى لوس أنجليس. كان على متنها طاقم من ستّة أفراد إضافة الى 53 راكبًا وخمسة خاطفين. عند الساعة 8,42 صباحًا في نوارك بولاية نيو جيرسي، انطلقت رحلة تابعة للخطوط المتحدة رقم 93 متجهة إلى سان فرنسيسكو.
إثر ذلك، لم تبلغ أي من الطائرات الأربع وجهتها النهائية.
“خائف للغاية”
في وسط مانهاتن، كان قرابة خمسين ألف شخص من موظفي مركز التجارة العالمي، أبرز رموز قوة الاقتصاد الأمريكي وموقع أطول ناطحتي سحاب في نيويورك، يتدفقون الى مكاتبهم، بينهم جوزف ديتمار، أحد الشهود الذين نجوا من العملية.
يستعيد ديتمار، وكان حينها يبلغ 44 عامًا، ويعمل اليوم خبير تأمين في شيكاغو، ما جرى صبيحة ذاك اليوم المشؤوم. دخل المصعد نحو الطابق 105 من البرج الجنوبي المؤلّف من 110 طوابق، لحضور اجتماع عند الثامنة والنصف صباحًا.
عند الساعة 8,46 صباحًا، ومضت الأضواء في الغرفة الخالية من النوافذ، وجرى إنذار المشاركين الـ54 بوجوب إخلاء المكان، لم يعرفوا حينها أن الرحلة 11 كانت قد اصطدمت بالبرج الشمالي المجاور.
انتقل ديتمار وزملاؤه إلى الطابق تسعين حيث عاينوا مشهد الرعب الأول. ويقول ديتمار (64 عاماً) لوكالة فرانس برس “كانت هذه أسوأ 30-40 ثانية في حياتي”.
ويستعيد رؤيته لألسنة اللهب وسحب الدخان السوداء تتصاعد من نوافذ البرج التي بدت أشبه بثقوب سوداء. ويقول “كانت ألسنة اللهب أكثر احمراراً من أي لون أحمر رأيته في حياتي”.
ويضيف بغصّة محاولاً حبس دموعه “رأينا أثاثاً وأوراقاً.. وأشخاصاً يخرجون رغماً عنهم من المبنى. كنت خائفاً للغاية”.
بينما كان كثر مذهولين من هول ما يجري حولهم، قرر ديتمار التوجّه نحو السلالم لمغادرة المبنى، من دون أن يدرك حينها أن هذا القرار الصائب سينقذ حياته.
“أمريكا تحت الهجوم”
في أسفل البرج، كان الطاهي مايكل لوموناكو يخرج من مركز التسوق بعد أن قرر فجأة الذهاب الى مكان آخر لإصلاح نظارته. وحصلت عملية الصدم.
يروي كيف أنّه نظر في تلك الأثناء الى نوافذ مطبخه في المطعم الواقع في الطابق 107 من البرج الشمالي. ويتذكر “كان بإمكاني رؤية أشخاص يلوحون بأغطية الموائد من نوافذ مطعمنا. كان المشهد مروعاً وفظيعاً”.
سرعان ما انتشرت الأنباء عن الاصطدام في مركز اقتراع حيث كان ناخبون يدلون بأصواتهم لاختيار خلف لعمدة نيويورك رودي جولياني.
في بادئ الأمر، لم يستوعب السكان كيف فشل قائد الطائرة في رؤية ناطحة سحاب عملاقة، فيما بدأ المذيعون على القنوات التليفزيونية يتكهنون بأسباب قد تكون خلف “الحادثة”.
عند الساعة 8,50 صباحًا، أُبلغ الرئيس جورج دبليو بوش خلال زيارته مدرسة ابتدائية في فلوريدا، بأن طائرة صغيرة اصطدمت بشكل مأساوي، عن طريق الخطأ، بالبرج الشمالي.
في هذه الأثناء، حاول برج المراقبة في نيويورك الاتصال بالرحلة 175، ولم يلقَ ردا. قبل ذلك بدقائق، كان الخاطفون سيطروا على طائرة البوينج 767 فوق نيوجيرسي.
مع اندفاع خدمات الطوارئ لإجلاء الناس من البرج الشمالي، صدر نداء عبر مكبّر الصوت في البرج الجنوبي يطلب من الموجودين في البرج البقاء في أماكنهم مع التأكيد بأن المبنى آمن. تجاهل ديتمار طلب زملائه بأخذ أحد المصاعد السريعة من الطابق 78 إلى الأرض. كان يعرف السلالم المخصصة للخروج في حال اندلاع حريق.
في مكان ما بين الطابقين 74 و75، يتذكر ديتمار كيف بدأ السلم “يهتز بشكل عنيف” تحت أقدامه. ويقول “انفصل الدرابزين عن الجدران، كانت الدرجات تحت أقدامنا تتخبّط كأمواج المحيط.. شعرنا بجدار ناري وشممنا رائحة وقود تلك الطائرة”.
عند الساعة 9,03 صباحًا، لم يكن ديتمار علم أن المعتدين وجّهوا الرحلة 175 إلى البرج الجنوبي؛ حيث اخترقت الطائرة المبنى فوقه مباشرة، بين الطابقين 77 و85. كان العالم أجمع مجمداً أمام شاشات التلفزة التي نقلت مشهد الاصطدام المروّع.
في غضون ذلك، كان الرئيس الأمريكي يقرأ قصة “الماعز الأليف” لطلاب الصف الثاني في مدرسة إيما بوكر الابتدائية في ساراسوتا. قاطعه رئيس أركانه آندي كارد لإبلاغه أنّ طائرة ثانية اصطدمت بمركز التجارة العالمي. همس في أذن الرئيس “أمريكا تتعرض لهجوم”.
في تمام التاسعة والنصف، أدلى بوش ببيان مقتضب رجّح فيه أن تكون الهجمات “إرهابية”. وأمر “بإجراء تحقيق شامل لتعقب” الجناة.
“نظرات عيونهم”
في تلك الأثناء، بدأ بعض موظفي المكاتب في البرج الجنوبي المحاصرين في الطوابق العليا، الإقدام على ما فعله المحاصرون في البرج الشمالي: القفز من النوافذ الى موتهم المحتوم.
في الطابق 31، تجاوز ديتمار رجال إطفاء وعمال خدمة الطوارئ كانوا في عداد أول المستجيبين للاستغاثة. يتذكر تلك اللحظات العصيبة “كانت نظرات عيونهم (تقول) إنهم يدركون أنهم يصعدون إلى الأعلى ولن يعودوا أدراجهم قط”.
عندما بلغ ديتمار وزملاؤه الطابق الأرضي، شاهدوا قطع فولاذ كبيرة وركامًا أسمنتيًا متناثراً وبقع دم. ومع استمرار تساقط الحطام من الأعلى، وجّههم رجال الإنقاذ نحو ردهة التسوّق تحت مركز التجارة العالمي، ليخرجوا على بعد مبان عدّة شمالاً.
بحلول الساعة العاشرة إلا دقيقة صباحًا، سمعوا صوتًا يصمّ الآذان مصدره البرج الجنوبي الذي بدأ ينهار خلفهم.وسرعان ما ترددت بعده “صرخات عشرات آلاف المذعورين”، فيما كانت سحابة ضخمة من الرماد تغطي أجواء مانهاتن.
“المكان الأكثر أماناً”
في جميع الولايات الأمريكية وحول العالم، التصقت عيون ملايين المشاهدين بشاشات التلفزة.
وسط الأنقاض، كان جسد آل كيم مغطى برماد كثيف. تسبّبت الحرارة المنبثعة بإحراق أنفه والجزء العلوي من جهازه التنفسي وحاجبيه، بعدما هرع إلى مركز التجارة العالمي للمساعدة في إجلاء الجرحى إلى فندق ماريوت القريب قبل سقوط البرج الجنوبي.
ويقول بينما يتذكر تلك اللحظات “لم أستطع التنفس. كان الهواء لاذعاً للغاية. أتذكر أنني استخدمت قميصي لتغطية فمي. حتى إنني لم أستطع رؤية يدي أمام عينيّ”.
من حوله، كانت تتعالى صافرات إنذار رجال الإطفاء.
ويروي كيف أنه تعرّف إلى صوت اثنين من زملائه. شبك الثلاثة أيديهم كما يفعل “تلاميذ المدارس” وشقوا طريقهم ببطء بين الركام والظلام والنار.
على ارتفاع آلاف الأقدام في الهواء، كانت المأساة تتكشف تباعاً.
عند الساعة 9,25 صباحًا، منعت إدارة الطيران الفيدرالية جميع الرحلات الجوية من الإقلاع. بعد 15 دقيقة، أمرت كافة الطائرات المدنية في المجال الجوي الأمريكي بالهبوط، في توجيهات غير مسبوقة في تاريخ الطيران الأمريكي.
لكن التوجيهات جاءت متأخرة لمنع الخاطفين من السيطرة قبل حلول التاسعة صباحاً، على رحلة الخطوط الأمريكية رقم 77 المتجهة نحو العاصمة الأمريكية.
داخل البنتاغون، لم تظن المتخصصة في العلاقات الإعلامية كارن بايكر لوهلة أنها في خطر. وتتذكر كيف قالت لزميلها حينها “هذا هو المكان الأكثر أمانًا في العالم حاليًا”.
لكن لدى عودتها عند الساعة 9,37 صباحًا من الكافيتريا إلى مكتبها، تبيّن أن ما اعتقدته ليس إلا وهماً، إذ اصطدمت الرحلة 77 بمقر وزارة الدفاع الأمريكية وقتل من كانوا على متنها إضافة إلى 125 شخصًا كانوا في المبنى.
وتروي “حصل دوي قوي ثم شعرنا بهزة. اعتقدنا حينها أنها قنبلة تم إطلاقها في مكان ما داخل المبنى”.
في الوقت ذاته تقريباً، تمّ إخلاء البيت الأبيض، وسارع نائب الرئيس ديك تشيني إلى الاختباء في ملجأ تحت الأرض.
معركة في الجو
قبل الساعة 9,30 صباحًا بقليل، في أجواء أوهايو، خطف أربعة مسلّحين رحلة الخطوط المتحدة رقم 93. بينما كانت الطائرة التي أقلت 33 مسافرًا وسبعة أفراد من طاقمها، بصدد الهبوط، اتصل الراكب إدوارد فيلت (41 عامصا)، وهو أب لطفلين، من الحمام بخدمة الطوارئ على الرقم 911، للإبلاغ عن الخطف.
خلال مكالمات مع أقاربهم، كان بعض الركاب علموا بما جرى في برجي التجارة العالمي. وقررت مجموعة منهم اقتحام قمرة القيادة لمنع الخاطفين من توجيه الطائرة الى الهدف المرسوم، والذي رجِّح في ما بعد أنه واشنطن.
وكان في عداد المجموعة تود بيمر الذي سُمع أثناء مكالمة مع عاملة الهاتف على الأرض، وهو يقول “هل أنتم مستعدون؟ حسنًا، دعونا نتقدّم”.
استمرت المواجهة ست دقائق. وبينما كان الركاب بصدد فتح باب قمرة القيادة بالقوة، عبث الخاطفون بالطائرة وحاولوا قطع الأكسيجين.
بتمام العاشرة وثلاث دقائق، سقطت الطائرة في منطقة حرجية في بلدة شانكسفيل الصغيرة في بنسلفانيا، على بعد 120 كيلومترًا جنوب بيتسبرغ. وأحدث ارتطامها كرة نارية ضخمة، جراء انفجار مخزون الوقود فيها، ما تسبب بمقتل كل من كانوا فيها.
في تلك الأثناء، تلقى غوردن فيلت اتصالًا هاتفيًا من زوجة شقيقه إدوارد أبلغته خلاله بأن زوجها على متن الرحلة 93. وسارع غوردن الذي بعث رسالة قصيرة إلى شقيقه كتب فيها “إد، عندما تهبط (الطائرة)، اتصل بنا. نحن قلقون” عليك.
طائرة الرئيس تحلّق عاليًا
في تلك الأثناء، حلّقت طائرة الرئاسة التي لم تكن تدرك أين ستكون وجهتها، فوق خليج المكسيك على ارتفاع قياسي بلغ 45 ألف قدم، حيث تكاد تكون الاتصالات معدومة.
أراد بوش العودة إلى واشنطن، لكنّ جهاز الاستخبارات القلق من احتمال وجود المزيد من الطائرات المخطوفة في طريقها إلى العاصمة، اعتبر أن ذاك الخيار محفوف بالمخاطر. لذا توجّهت الطائرة غرباً، إلى قاعدة باركسدايل الجوية في لويزيانا.
بحلول الساعة 10,28 صباحًا، انهار البرج الشمالي لمركز التجارة العالمي في نيويورك بعد احتراقه لمدة 102 دقيقة. وحضّ جولياني، عمدة نيويورك، السكان على التزام “الهدوء”، لكنه طلب منهم إخلاء وسط مانهاتن.
مع توقّف نظام مترو الأنفاق، انطلق مئات الآلاف سيراً على الأقدام. سار كثيرون لساعات، شمالاً الى الجزء الشمالي من نيويورك وشرقاً باتجاه بروكلين.
وتولى أسطول بحري تشكّل بطريقة عفوية من عبّارات وقوارب صيد ويخوت وسفن خفر السواحل إجلاء نحو 500 ألف شخص على مدار اليوم بحرًا.
الدفاع “عن الحرية”
استمرت جهود الإنقاذ المحمومة وسط سحب الدخان المنبثعة من برجي مركز التجارة العالمي، في الموقع الذي أطلق الصحفيون عليه فيما بعد تسمية “غراوند زيرو” طيلة فترة ما بعد الظهر.
لاحقاً، أصيب العديد من رجال الإنقاذ والمتطوعين والموظفين المدربين بسرطان الرئة جراء استنشاق الغبار السام.
ساعد المسعف كيم في إنقاذ رجل الإطفاء كيفين شيا، الناجي الوحيد من مجموعته التي ضمّت 12 شخصًا.
في الساعة 12,30 ظهرًا، خرج 14 شخصًا أحياءً من درج بقي سليماً في البرج الشمالي. وباتت نجاتهم معروفة باسم “معجزة السلم ب”.
حاول الطاهي لوموناكو معرفة هوية الموظفين الموجودين في المطعم، لكن تعذّر عليه التواصل مع كثيرين. واستغرق الأمر أياماً ليدرك أن 72 شخصاً كانوا في المطعم ولم ينج أي منهم.
من لويزيانا، أعلن بوش أن الجيش الأمريكي في “حالة تأهب قصوى”. ونُقل بعدها جواً إلى قاعدة في نبراسكا.
سارع غوردن فيلت، بعدما علم بمصرع ركاب الرحلة 93 من دون استثناء، الى الاتصال بوالدته لإبلاغها بمقتل شقيقه إدوارد.
استقلّ ديتمار قطارًا الى منزل والديه في بنسلفانيا. يتذكر “الصمت التام” الذي ساد في القطار وكيف كان الجميع في حالة صدمة.
عند الثامنة والنصف مساء، انهار من التعب ولم يقو على متابعة خطاب الرئيس الأميركي الذي أعلن من المكتب البيضاوي مقتل الآلاف جراء الهجمات.
ويقول ديتمار بمرارة “لن ينسى أي منا ذاك النهار، لكننا نمضي قدماً للدفاع عن الحرية وكل ما هو جيد وعادل في عالمنا”.
مع عودتها الى منزلها، انهارت بايكر بينما كانت تعانق زوجها وطفليها الصغيرين. تتذكر كيف أن “التوتر الشديد دفعهم إلى حافة الهاوية وكانوا ينتحبون فقط”.
لم يبلغ كيم منزله في بروكلين إلا عند منتصف الليل. أخذ قسطًا من الراحة لساعات قليلة قبل أن يستيقظ باكرًا.
ويقول “كان أمامنا الكثير لنفعله، جنازات عديدة نحضرها ولم تكن لدينا لحظة للتفكير” فيما حصل.